هل يُعتبر الذهب استثمار جيد في الوقت الحالي؟
الذهب اكتُشف لأول مرة في مصر القديمة منذ ما يزيد عن 4 آلاف عام، ولا يزال انبهار البشر بجماله الغامض مستمرًا إلى هذا اليوم. ففي القرن الحادي والعشرين، تتعدى قيمة الذهب مجرد الاستخدامات الصناعية التقليدية لتشمل أهميته المتزايدة كأداة استثمارية موثوقة لحفظ القيمة، وأداة تحوّط فعّالة ضد التضخم، وملاذ آمن في أوقات الاضطراب.
فمثلًا، وصلت أسعار الذهب في عام 2020 لمستويات قياسية مسجلة 2074 دولارًا للأونصة مع تصاعد موجات التشاؤم التي اجتاحت الأسواق إثر جائحة كوفيد-19. وعقب الغزو الروسي لأوكرانيا في أواخر فبراير الماضي، عاد المعدن الأصفر ليشق طريقه بثبات نحو حاجز الألفي دولار للأونصة مجددًا.
في أعقاب الجائحة، شهدت أسواق الذهب حراكًا ملحوظًا نتيجة عوامل متضاربة، منها استمرار معدلات التضخم ضمن مستويات مرتفعة من جهة، وقيام البنوك المركزية عالميًا - وعلى رأسها مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي - برفع أسعار الفائدة في محاولة للسيطرة على صعود أسعار المستهلكين.
سعر الذهب
ما هي الآفاق المستقبلية لأسواق الذهب و هل يُعتبر الذهب من الاستثمارات الجيدة لعام 2023 ؟ تستعرض هذه المقالة بعض المحركات الأساسية للسوق، مقدمًا رؤىً تحليلية لتوجهات الأسعار خلال الفترة القادمة.
ما هي أبرز مجالات استخدامات الذهب؟
ينحصر استخدام الذهب بشكل أساسي في صناعة المجوهرات، وكذلك كأداة استثمارية. ارتفع معدّل الطلب العالمي على الذهب بنسبة 11٪ عام 2022، لتصل لأعلى قيمة مسجلة خلال العقد الأخير، ويعود هذا الارتفاع الاستثنائي بشكل رئيسي إلى شهية المستثمرين القوية عالميًا وذلك حسب إحصائيات مجلس الذهب العالمي .
سجل الاستثمار في الذهب نموًا بنسبة 10٪ على أساس سنوي مسجلًا 1107 طنًا. في المقابل تراجع الطلب على المجوهرات بنسبة 3٪ (ليصبح إجمالي الاستهلاك 2086 طنا)، ولكن مع استمرار نمو الطلب على سبائك الذهب والعملات الذهبية ليبلغ 1217 طنًا.
تُستخدم المجوهرات أيضًا كأداة استثمار مادية متاحة لعامة الشعب. ويحظى هذا الأسلوب الاستثماري بشعبية واسعة بشكل خاص في كل من الصين والهند - أكبر سوقين في هذا القطاع عالميًا - حيث يلجأ المستهلكون للاستثمار في المجوهرات الذهبية كأداة لحفظ قيمة الأصول والادخار، بالإضافة إلى إهدائها في المناسبات الاجتماعية والأعياد وحفلات الزفاف.
الذهب كأداة استثمارية
لعِب الذهب منذ آلاف السنين دورًا محوريًا في أسس الاقتصاد العالمي، حيث شكّل أداة دفع موثوقة ومخزنًا للقيمة على مدار العصور. يلجأ بعض المستثمرين إلى الاحتفاظ بحصة تتراوح بين 5% و 10% من إجمالي قيمة محفظتهم الاستثمارية بالذهب، سواء من خلال سبائك وعملات ذهبية أصلية، أو عبر أدوات تداول متخصصة كصناديق المؤشرات المتداولة (ETFs) لتنويع المحافظ وتقليل مخاطر التقلبات الحادة التي قد تصيب الأسهم والسندات أو العملات التقليدية.
يٌسعّر الذهب بالدولار الأمريكي، مما يعني أن اتجاه أسعاره عادة ما يكون معاكًسا لحركة الدولار. هذا يمنحه أهمية استثنائية كأحد أبرز عقود التحوط الفعالة ضد الخسائر الناتجة عن التراجع النسبي لقيمة عملة الاحتياط العالمية. يميل سعر الذهب أيضًا للارتفاع خلال فترات التضخم الاقتصادي، أو في أوقات عدم الاستقرار السياسي والاضطرابات العالمية بمختلف أشكالها.
بالرغم من استخدام معادن ثمينة أخرى ضمن استراتيجيات التحوط، يتّسم الاستثمار في الذهب بسيولة مرتفعة للغاية. يسمح هذا للمستثمرين بإمكانية تحويل أصولهم الذهبية إلى سيولة نقدية بسهولة تامة في الوقت الذي يختارونه. وتزداد وتيرة تبني شراء الذهب من خلال المنصات, لما توفره من مرونة وسهولة.
تمثل المجوهرات الذهبية والسبائك والعملات المعدنية طرقًا بديلة للمستثمرين لنقل أصولهم كجزء من الميراث للأجيال القادمة، في سياق خال من مخاطر حيازة أسهم الشركات المتخصصة في قطاع الذهب.
يجدر التنويه أن الاستثمار في أية أداة مالية، بما في ذلك الذهب، ينطوي على مخاطر. لا يوجد أصل استثماري محصنٌ بالكامل ويمكن اعتباره ملاذًا آمنًا بشكل مطلق. يجب عليك إجراء بحث شخصي مستقل قبل اتخاذ أي قرارات استثمارية. وتذكّر أن الأداء السابق لا يضمن تحقيق نتائج مماثلة مستقبلًا. كما يُنصح بتجنب مخاطر الاستثمار بأموال تفوق قدرتك على تحمل خسارتها.
ما هي العوامل التي يتأثر بها سوق الذهب؟
عاد المعدن النفيس لمسار صعودي خلال يناير 2023، مرتفعًا بما يزيد عن 7٪ مدعومًا بإعادة فتح الاقتصاد الصيني وتوقعات نمو مطرد في حجم الطلب من هذا السوق المحوري. مع ذلك، تراجع المعدن مؤخرًا ليسجّل أدنى مستوى له خلال خمسة أسابيع عند حدود الـ 1848 دولارًا للأونصة بتاريخ 14 فبراير.
ومن جهتها، علّقت دانييلا هاثورن، محللة الأسواق في موقع Capital.com. "من خلال نظرة مقارنة بين سعر الذهب الحالي وأدائه منذ ثلاثة أشهر، تزداد جاذبية المعدن كفرصة استثمارية محتملة في 2023".
وأشارت إلى ديناميكية السوق في عام 2022 قائلة: "جرّدت ضغوط التضخم المتصاعدة، إلى جانب الإجراءات التقييدية للسياسات النقدية، الذهب من ميزته التنافسية، وتراجعت الأسعار لأدنى مستوياتها خلال عامين ونصف، مع لجوء المستثمرون بشكل أساسي إلى أدوات استثمارية ذات عوائد ربحية أعلى، كالسندات، على حساب المعدن الذي لا يقدم عوائد ثابتة.". ثم أضافت:
انخفض معدل التضخم في الولايات المتحدة إلى 6.4٪ في يناير 2023، مسجلًا تراجعًا متواصلًا للشهر السابع على التوالي. ويعدّ هذا انعكاسًا لظاهرة انكماش التضخم التي يشهدها الاقتصاد الأمريكي. في المقابل، عمد مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي إلى رفع أسعار الفائدة بنسبة 25 نقطة أساس خلال اجتماعه لشهر فبراير، خلافًا للوتيرة المتسارعة لعام 2022 والتي شملت زيادات وصلت إلى 50 و75 نقطة أساس.
من جهة أخرى، فاجأت أحدث إحصائيات سوق العمل الأمريكي المراقبين بنتائج إيجابية وغير متوقعة، حيث تم إضافة أكثر من مليون وظيفة للاقتصاد في يناير، ليسجل بذلك معدل البطالة أدنى مستوياته منذ عقود عند نسبة 3.4٪. تستطرد دانييلا في تحليلها:
هل يُعتبر الذهب من الاستثمارات الجيدة لعام 2023؟
هل الوقت مناسب لشراء الذهب في انتظار ارتداد سعره؟ امتعض كبار المحللين الاقتصاديين عن تقديم إجابات قاطعة حول هذا السؤال في ظل المشهد الحالي الذي يتضمن تغييرات كبيرة في معدلات الفائدة. في تقرير إحصائي بتاريخ 9 فبراير 2023، أشار الخبراء في مصرف أستراليا ونيوزيلندا (ANZ):
يتوقع المحللون تراجُع أسعار الذهب إلى 1730 دولارًا للأونصة بحلول أواخر الربع الأول من عام 2023، مع ارتفاع لاحق ليصل 1900 دولارًا للأونصة قبل نهاية العام. إلا أن المعدن سيواجه على الأرجح انخفاضَا نسبيًا في العام التالي، ليستقر متوسط سعره ضمن حدود 1895 دولارًا أمريكيًا للأونصة خلال 2024.
تبدى توقعات المحللين في بنك TD Securities الاستثماري الكندي اتجاهًا انخفاضيًا لأسعار الذهب في الربع الأول من 2023:
وقد يرتد الذهب من 1800 دولارًا للأونصة ليصل إلى 1900 دولارًا للأونصة مع نهاية 2024، ويستقر عند 1875 دولارًا للأونصة بحلول 2025، وذلك حسب تقرير البنك التحليلي للتوقعات في 2023 الذي صدر في نوفمبر 2022.
من جهة أخرى، يشدد الخبراء في مؤسسة ستاندرد تشارترد البريطانية على أنهم "يعتبرون الذهب أصلًا رئيسيًا، وأداة جوهرية لتنويع المحافظ الاستثمارية... نتوقع أن تساهم الأسواق المادية في تعزيز أداء المعدن بشكل أساسي انطلاقًا من هذه الفترة، والتي تشهد تزايدًا موسميًا في معدلات الطلب الاستهلاكي. من شأن تصاعد الصراع الروسي-الأوكراني الأخير أن يضخ موجة جديدة من توجه المستثمرون نحو الملاذات الآمنة وبالتالي الذهب، مما يضمن له زخمًا إيجابيًا. بناء عليه، نؤمن بإمكانية تجاوز حاجز الـ 1800 دولار للأونصة في غضون إثني عشر شهرًا، مع اعتدال عائدات السندات وتراجع نسبي في سعر الدولار."
تعتقد دانييلا هاثورن، محللة الأسواق في Capital.com، أن مستقبل أسعار الذهب يبقى مرهونًا بالبيانات الاقتصادية الصادرة عن الولايات المتحدة، إلى جانب معنويات المستثمرين:
الخاتمة
يبقى من المهم، عند دراسة جدوى الاستثمار الحالي بالذهب، أخذ التقلبات السريعة والعميقة للأسواق المالية بعين الاعتبار. يشكل هذا العامل تحديًا حقيقيًا أمام وضع توقعات دقيقة حتى ضمن أطر زمنية محدودة، مما يجعل من الصعب إصدار تخمينات موثوقة على المدى البعيد. والنتيجة الطبيعية لهذا الواقع، هي أن توقعات المحللين قد لا تكون صائبة دائمًا.
ننصح دائمًا بإجراء بحوث ودراسات شخصية موسّعة مع متابعة مستمرة لمستجدات السوق والإخبار المتخصصة. يشمل ذلك إجراء تحليل فني ومُعمّق لأبرز الاتجاهات، مع الاطلاع على تعليقات المحللين من مصادر موثوقة والإنصات لتوجهاتهم، وذلك قبل أي قرار استثماري. وتذكّر أن الأداء السابق لا يضمن تحقيق نتائج مماثلة مستقبلًا. وإياك والمخاطرة بمبالغ لا تحتمل خسارتها.